مقالات

هل يمكن إزاحة الدولار الأمريكي عن عرش العملات العالمية؟

بدايةً سنستعرض وجهات النظر حول فوائد ومساوئ هيمنة الدولار الأمريكي. عندما يرتفع سعر صرف الدولار تصبح تكلفة المستوردات بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية أقل، ولكن الصادرات تصبح أكثر تكلفة، مما قد يضر بالصناعات المحلية الأمريكية التي تصدر سلعها إلى خارج الولايات المتحدة الأمريكية ويؤدي ذلك إلى ارتفاع في معدلات البطالة وقد يتسبب في ركود اقتصادي. وقد يتفاقم هذا الخلل في التوازن إن تزامن مع بعض الاضطرابات المالية والتي عادةً ما تحصل في بيئة تكون أسعار الفائدة فيها مرتفعة. ويعتقد بعض المحللين بأن تكلفة هيمنة الدولار وارتفاع سعر صرفه يؤثر بشكل كبير على الصناعات الأمريكية وبالتالي فإنه يتوجب على الولايات المتحدة أن تتنازل طواعيةً عن هذه الهيمنة. بينما يختلف اقتصاديون آخرون، بحجة أنه من الطبيعي أن يكون هناك رابح وخاسر بدولارٍ قوي. ويؤكد هؤلاء الخبراء أن الخسائر التي يتعرض لها المصدرون تقابلها مكاسب للمستوردين، وأن الوضع بشكل عام يمثل فائدة صافية للاقتصاد الأمريكي.

على الجانب الأخر فإن الولايات المتحدة تتضرر من التلاعب بالعملة الذي قد تقوم به بعض الدول من خلال تجميع أكبر قدر ممكن من الدولار الأمريكي بهدف تخفيض أسعار صرف العملة المحلية وبالتالي ارتفاع حجم وقيمة صادرات هذه الدول وتصبح أكثر قدرة على المنافسة، بينما ستصبح الصادرات الأمريكية أكثر تكلفةً. ومؤخراً كانت الصين من أمهر الدول في القيام بهذه الأفعال مع أنها قلصت من هذه الأفعال في السنوات الأخيرة. وقد أدت هذه الطريقة في التعامل مع هيمنة الدولار من قبل الصين إلى حصول تشنجات سياسية وأدت إلى عقوبات اقتصادية من قبل الطرفين. مثال آخر على التلاعب بالعملات كان خلال جائحة كوفيد-19، حيث اشترت بعض الاقتصادات المتقدمة مثل تايوان وسويسرا الدولار واليورو للحفاظ على قيمة عملاتها وتنشيط الصناعة المحلية واستمرار التصدير.

هل هناك منافسة حقيقية للدولار الأمريكي؟

في الواقع بدأت مؤخراً بعض الدول تقاوم الدولار الأمريكي على نحو متزايد. فعلى سبيل المثال في قمة دول البريكس في أبريل 2023، تساءل الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، “لماذا لا يمكننا القيام بالتجارة على أساس عملاتنا الخاصة؟” سواءً كانت العملات المحلية أم البدائل النقدية الأخرى، فإن البدائل المقترحة المرشحة لمنافسة الدولار والأكثر شيوعاً فلها مشاكلها الخاصة وسنقوم هنا باستعراض مبسط للعقبات التي يمكن أن تواجهها العملات المرشحة للتنافس مع الدولار:

عملة البريكس: لسنوات عدة، ناقش قادة دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) إطاراً لعملة مشتركة، حيث يعتقد المؤيدون بأنها ستحمي من انخفاض قيمة العملات المحلية عندما يرتفع الدولار. ولكن وبشكلٍ مختصر فإن التحديات الهيكلية في دول البريكس، بما في ذلك الافتقار إلى البنوك المركزية القوية والسياسات النقدية، وتجانس الاقتصادات والتشتت الجغرافي يجعل ذلك أمرا غير ممكناً على الأقل في الوقت الحالي والوقت القريب. ومع كل الادعاءات بأن دولاً عدة تطمح في الانضمام إلى مجموعة البريكس، فقد أعلنت المملكة السعودية يوم امبارح وعلى هامش اجتماعات منتدى دافوس أنها إلى الآن لم تنضم إلى مجموعة البريكس بالرغم من كل ما أشيع عن ذلك.

اليورو: اليورو هو ثاني أكثر العملات الاحتياطية استخداماً، حيث يمثل حوالي 21 في المئة من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية. وينافس الاتحاد الأوروبي الولايات المتحدة في الحجم الاقتصادي، وحجم صادراته أكبر، ويتباهى ببنك مركزي قوي وأسواق مالية قوية وهي عوامل تجعل عملته منافساً قابلا للتطبيق للدولار. لكن عدم وجود وزارة خزانة مشتركة وسوق سندات أوروبية موحدة، يحد من جاذبية اليورو كعملة احتياطية مهيمنة كالدولار.

الليوان الصيني: تحاول الصين تعزيز الدور العالمي لعملتها الوطنية الليوان منذ أواخر عام 2000. ويمثل الليوان حالياً 3٪ من الاحتياطيات العالمية، وتحاول الصين تعزيز ذلك من خلال التجارة الثنائية، وخاصة في أعقاب الحرب الأوكرانية. في ذات الوقت هناك عدة أسباب موضوعية تمنع العملة الصينية من أن تكون منافساً حقيقياً للدولار، منها النظام السياسي وهيمنة الحزب الواحد بالإضافة إلى القيود النقدية التي تفرضها الصين على حركة الأموال. وبالتالي فإن الصين لا تصرح علناً برغبتها بالمنافسة مع الدولار وتكتفي باستخدام عملتها الوطنية في التجارة البينية.
حقوق السحب الخاصة (SDR): أثناء محادثات بريتون وودز، اقترح رجل الاقتصاد البريطاني المشهور جون ماينارد كينز إنشاء عملة دولية موحدة Bancor “بانكور”، والتي يمكن أن يقوم بإدارتها بنك مركزي عالمي. ورغم أن خطة كينز لم تؤت ثمارها قط، فقد كانت هناك دعوات لاستخدام حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي (وهي عملة داخلية خاصة بالصندوق، ولكن يمكن استبدالها باحتياطيات من العملات الأخرى) كعملة احتياطية عالمية. وتعتمد قيمة حقوق السحب الخاصة على خمس عملات: اليورو والدولار الأمريكي والجنيه الإسترليني والليوان الصيني والين الياباني. ويعتقد المؤيدون لهذا الطرح بأن مثل هذا النظام سيكون أكثر استقراراً من النظام الحالي القائم على عملة وطنية قد يتعرض مصدرها إلى تحديات اقتصادية وسياسية مختلفة استجابةً للاحتياجات المحلية والدولية كما هي الحال في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي. ولكن لكي يتم اعتماد حقوق السحب الخاصة على نطاق واسع، فإنها ستحتاج إلى بدء العمل بها كعملة فعلية مقبولة في المعاملات الخاصة وفي سوق الديون والتجارة العالمية. وسوف يحتاج صندوق النقد الدولي أيضا إلى التمكين من السيطرة على المعروض من حقوق السحب الخاصة وأسعار الفائدة، وهو أمر صعب المنال نظراً لحق النقض الذي تتمتع به الولايات المتحدة بحكم الأمر الواقع داخل هيكل التصويت في المنظمة.

العملات المشفرة: يحلم المبشرون والمروجون لتكنولوجيا العملات الرقمية وسلسلة الكتل (Blockchain) بعالم تحل فيه العملات المشفرة كالبيتكوين محل العملات الصادرة والمدعومة من قبل الحكومات. يتم اصدار “تعدين” هذه العملات الرقمية ونقله عبر شبكة لامركزية من أجهزة الكمبيوتر دون أي سلطة إصدار. ويعتقد المؤيدون بمن فيهم الرئيس السلفادوري نايب بوكيلي، الذي جعل البيتكوين عملة رسمية في السلفادور، بأن مثل هذا النظام من شأنه أن يحرر البلدان من نزوات ومطبات السياسات النقدية للدول الأخرى. لكن النقاد يعتقدون أن اعتماد العملات المشفرة كعملات قانونية يقيد من خيارات سياسات الحكومات وبالتالي قد تفقد المصارف المركزية قدرتها على التحرك في مواجهة الأزمات، إضافةً إلى أن تقلب أسعار العملات المشفرة يقلل من قابليتها للتطبيق كوسيلة مستقرة للتبادل. والجدير بالاهتمام حالياً هو قيام بعض البلدان ومن خلال مصارفها المركزية بتجربة استخدام تقنية (Blockchain) لإصدار عملات وطنية رقمية تحت سيطرة وإدارة المصارف المركزية.

مستقبل الدولار

يتفق العديد من الخبراء على أن الدولار لن يتم تجاوزه كعملة احتياطية رائدة في العالم في أي وقت قريب. وإن الأمر الأكثر ترجيحاً هو مستقبل يتقاسم فيه الدولار الأمريكي النفوذ ببطء مع بعض العملات الأخرى، والجدير بالذكر هنا أن هذا الاتجاه يمكن له أن يتسارع بسبب الاستخدام العدواني للعقوبات الأمريكية وتزايد سلطة الولايات المتحدة المالية واستخدامها كأداة سياسية. وفي حال فقدان الدولار وضعه الاحتياطي المهيمن، فإن الولايات المتحدة ستعاني من تداعيات اقتصادية وسياسية خطيرة. إذ أنه في غياب هيمنة الدولار، فإن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تفقد القدرة على الاقتراض بسرعة وبتكلفة زهيدة، الأمر الذي قد يلحق الضرر بقدرتها على تمويل استثمارات البنية التحتية وبرامج الرعاية الاجتماعية ومتطلبات الدفاع. كما أن التخلص من هيمنة الدولار من شأنه أن يعيد كتابة قواعد النظام المالي العالمي، ففي ظل نظام غير الدولار ستكون القواعد والأدوات مختلفة تماماً.

Related Articles

Back to top button
× Contact us